غصة …. وألم

كم هو رائع ذاك المنزل الذي أبصرته عيناي، وأنا برفقة ابنتي في طريقنا بالسيارة بمحاذاة الطريق الساحلي متجهتان إلى أحد (المولات) الشهيرة، والذي أذهلني بروعته وفخامته من جهة وآلمني ظلمته وسكونه من جهة أخرى.

لم استطع الإجابة على سؤال ابنتي و نظرة الاستغراب تعلو وجهها: ” أمي، لماذا أرى هذه المنازل الفخمة مظلمة وخالية في معظم المرات التي نمر فيها من أمامها؟!

لا أدرى لم حركت كلماتها في داخلي غصة وألم، وجعلت ذاكرتي تبحر في أعماق تاريخنا القديم، لأفتح معها حوارا مستذكرة (البيت العود) الذي يحوي على صغره وبساطته كل أفراد العائلة وفروعها، ليشكل مجتمعا أسريا مترابطا يسوده التفاهم والتعاون واحترام الكبير للصغير، وخاصة بعد أن أصبحت تطغى النظرة المادية على مجتمعنا، وأصبح التسابق على المظاهر يبرز بشكل لم يكن معهوداً من قبل، أما الضحية فهي فقدان الهوية والتقاليد والإثقال على النفس مادياً ومعنوياً لمجاراة المجتمع في مظاهرة البراقة الخادعة.

أنا لا أرى تفسيرا منطقيا كيف أن الإسراف والتبذير والمبالغة في الاستهلاك تحول إلى عادات وأعراف حاكمة في مجتمعاتنا، وبتنا ندفع ثمناً باهظاً لهذه العادات السيئة، فعلى المستوى العام فالتسوّق والشراء لم يعد تلبية لحاجة في حياة العائلة، بل أصبح برنامجاً للترفيه والتمتع. وعاداتنا في الأكل والشرب أصبحت قائمة على الإسراف والتبذير غالباُ، وخاصة في الولائم والمناسبات العامة، وما أكثرها هذه الأيام. وأطفالنا ينشئون من صغرهم على حب الاستهلاك، فنحن نعطيهم النقود دون حاجة، ويتعلمون على الاستمتاع بالشراء، لمجرد الشراء وإن كان لشيء لا يفيدهم، بل قد يكون ضاراً لهم.

وبعد أن تجاوزنا البذخ في ولائم الأفراح والأتراح وأصبحت من المسلّمات، جاءت إلينا احتفالات الاستقبال في قاعات وصالات خارج المنزل، تارة خشية الحسد والغيرة، وتارة خشية من اتساخ المنزل، وما يصاحب تلك الحفلات من مصاريف كمالية باهظة لا داعي لها  حتى بتنا لا نفرق بين الغني والفقير، وآخر صرعات مظاهر التفاخر هي حفلات (استقبال للمولود) في مستشفيات هي أقرب منها إلى فنادق خمس نجوم، فرحم الله أيام زمان، يوم كانت الفرحة تدب في المنزل بمشاركة الأهل والجيران في التهنئة ببساطة ودون تكلف.

        ومن زاوية أخرى ولأن الشيء بالشيء يذكر نرى كيف أن الزواج أصبح يتطلب كلفة باهظة، وكذلك مراسيم العزاء عند الوفاة تحتاج مبالغ طائلة، وتقديم الهدايا عند الولادة من قبل المرأة لصديقاتها يستلزم ميزانية هائلة.

إذا كان هذا هو توجه المجتمع بشكل عام، ونظرة الكبار قبل أن تكون نظرتنا فالجميع يقيم الآخرين تقييما ماديا، والمقتدر والغير مقتدر يحاولان أن يتفاخرا ويهتما بالمظاهر الجوفاء،  فكيف يلوم الكبار ـ وهم القدوة  ـ الصغار في هذه الجوانب وهم منساقين لها؟!

تملكتني الدهشة كذلك من رد ابنتي عليّ بعد أن طال حديثنا معا قائلة “أعلم أن الإسراف والمظهر قشور لا يجب أن نركز عليها، لكن ماذا نفعل إن كنا نجد أنفسنا مجبرين عليها بسبب ضغوط الآخرين وتوجهاتهم التي تدفعنا لمجاراتهم؟ “.  فوجدت نفسي مرة أخرى غير قادرة على الرد، وجعلتني ابحث عن إجابات لأسئلتها دون جدوى، هل أصبحنا نعتقد أن النفاق الاجتماعي والتفاخر والمظاهر والماديات خطأ أم أصبح كل ذلك جزءا هاما في حياتنا؟

كلي ثقة بأننا نعرف جميعا الإجابة على هذا السؤال أنه خطأ، وهو خطأ المجتمع بأكمله ونحن جزء من هذا المجتمع، أي إنها مسئوليتنا جميعنا وكفانا تمثيل دور الضحية ورمي أخطائنا على الآخرين، دعونا نصحح ما صنعناه بأيدينا ونسترجع عصر آبائنا وأجدادنا عصر الحب والقناعة، عصر التواضع  والقدوة الحسنة. ألا تعتقدون بأن الأوان قد حان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *