تعد المعرفة أساسا محركا للعلاقات الإنسانية، نظرا لأثرها في تحديد شكل العلاقة مع الآخرين، وقدرتها على توفير السبل المثلى للتعامل، وجدواها في تحقيق المزيد من الرقي والتحضر، لكنها في الوقت نفسه قد تحدث فجوة نتيجة اختلاف منابعها وتنوع مصادرها، والتباين في مناهج تطبيقها.
ونظرا لأهمية المعرفة فقد تسابقت الأمم في طلب العلم على مدى عصور طويلة، وتركت لنا إرثا كبيرا من المعرفة والمعلومات التي طالما كانت نبراسا نهتدي به ونسير على خطاه.
ولا شك بأن الإرث المعرفي الذي تركه لنا الأجداد تطلب الكثير من الجهد والسهر والاجتهاد، وشكل الأساس لثقافتنا التي نتمتع بها في وقتنا الحاضر، ومع التطور العلمي والتبادل الثقافي بين الأمم الذي أصبح سمة العصر الحديث وسمح بالاطلاع على الكثير من التجارب المتنوعة، بات إرثنا الخاص محدودا مقارنة مع ما توصلت إليه الأمم من إرث عالمي مشترك.
وتحدد المعرفة والثقافة بشكل عام رؤية الإنسان الخاصة وتفاعله مع الكثير من الأمور اليومية والقضايا الجدلية، وتبعا لاختلاف المنابع الثقافية نجد الكثير من الاختلافات الفكرية تطفو على السطح، ومع الاعتراف ببداهة هذا الاختلاف ووجهته الطبيعية، إلا أنه يكون أحيانا سببا في الخلافات التي تنعكس على بعض القضايا والمفاهيم، وربما تؤثر بالعلاقات وتحدد شكلها.
وتتشكل المناهج التي ينطلق منها الأفراد من اتجاهين مختلفين: اتجاه مؤمن بالفكر الموروث، يتمسك به ويضفي عليها قدسية وجلالة، ولا يسمح بالمساس بها، ولا يتقبل غيره، بينما يسعى الآخر للتحرر من القدسية ويرى بها جمودا وعقبة في وجه التطور الطبيعي.
وأنا أقف من الاتجاهين على مسافة واحدة، وأكن كل الاحترام لكل منهما، أقدر تلك الجهود التي قدمها أجدادنا في البحث المعرفي، كما أنني أرى أن الفكر القابل للحوار والنقاش هو فكر متحضر، ويتمتع بالإدراك والوعي والانفتاح والقدرة على استيعاب الآخرين، لذا أرى بأن قدسية القديم والاعتماد عليها في معالجة الكثير من الأمور يجب أن تتوقف عند بعض الأمور والثوابت الأساسية، فالحياة في حال تطور مستمر، ذلك أن الفكر الذي قدمه لنا الأجداد قد لا يصلح لحل مشاكلنا في حال تعاملنا معه بجمود ولم نسع لإضفاء المرونة عليه والتجديد فيه.
إن المتاح لنا في هذه الأيام من مصادر معلومات متنوعة وكثيرة ومستجدات علمية كبيرة يوفر لنا أضعاف مضاعفة مما توفر لأجيالنا السابقة، لذا أجد أننا مطالبون بتجاوز ما توصلوا إليه من علوم، وتقديم المزيد من المعرفة لأجيالنا القادمة، كما أن علينا التحرر من قدسية الأفكار والتعصب والانكماش، والانطلاق من القواعد الفكرية التي أسس لها مفكرونا الأجلاء من خلال توظيف تلك الأفكار في سياق معاصر، دون الالتفات إلى أصحاب الفكر الحديث وتوجهاتهم المختلفة ونقدها، فلم يعد الوقت يسمح بأن نقف في المكان ذاته والعالم بأسره يشهد تقدما في كافة المستويات.
ولا شك بأن الكثير من الخلافات تعزى لقلة المعرفة بالمستجدات العلمية لدى البعض في بعض الأحيان، وإلى التزمت والتصلب في الرأي في أحيان أخرى، وهي غالبا ما تنشأ عن الدخول في نقاشات جدلية يفتقر أحد طرفيها للمعرفة حول الموضوع المطروح وأبعاده المختلفة، وما استجد فيه، فيلجأ للتمسك بالأفكار الموروثة ويرفض التخلي عنها. إن الأفكار التي توارثها أجيالنا على مر القرون تشكل أساس لا نحيد عنه، ولا نتنكر له، لكنه يحتاج للكثير من التجديد والتطوير في ضوء معطيات عصرنا الحاضر، ولذا أدعو إلى العمل على المزيد من المعرفة خاصة في الموضوعات التي كثيرا ما تطرح على طاولة النقاش.