يعد الإنسان الوحدة الأولية في بناء المجتمع المدني وهو ما يعطي أهمية بالغة في عملية تنميته وبناءه القيمي والروحي، اللذان يسهمان في بناء تماسكه الداخلي بشكل عام، حيث يبرز أثرهما على سلوك الفرد وتصرفاته ومدى انضباطه في النظام الاجتماعي العام، وانطلاقا من ذلك فإن دور الأسرة وهي المحيط الأول الذي تتشكل فيه شخصية الفرد وملامحها هو أبرز أدوار المؤسسات التربوية جميعها، لأنه المحيط الأول (بين الذات الفردية والآخر) الذي يتفاعل به الطفل مع أفراد الأسرة الآخرين، ويهيئه لاستقبال أدوار المؤسسات التربوية الأخرى.
وهناك العديد من وجهات النظر المتباينة حول كيفية بناء شخصية الطفل من قبل أسرته، فمنها من يرى بأن خوض تجربة الطفل بمفرده قد تجعل منه شخصا مستقلا وقادرا على مواجهة المشكلات مستقبلا، وهو ما يجعل الخسائر مضاعفة في مرحلة تكوين الشخصية، وربما تكون فادحة مستقبلا، حيث يفتح الأبواب أمام الطفل للانفلات من القيود الاجتماعية، وهو ما قد يفقده الأخلاقيات والقيم، التي يؤسس لها من خلال المحيط الأسري، ويكون عرضة للانحراف والعنف والسلوك السلبي، وقد يفقد وسائل التعايش مع الآخرين، نظرا لاعتماده على الذات بعيدا عن الدور التوجيهي من المربي.
بينما نجد هناك من لا يمنح الطفل أية فرصة للتفاعل مع المجتمع منفردا، حيث يتعدى الأمر لديها دور الرقابة والتوجيه والحماية، وهو أمر قد يفقد الفرد الفرصة لتشكيل وتكوين شخصية مستقلة فيبقى تابعا للمربي طوال حياته، ولا يستطيع مواجهة مشكلاته منفردا، وفي مرحلة لاحقة يظهر فاقدا لمهارات الحياة نتيجة لنقص التجارب الذاتية دون الاعتماد على المربي، وغير قادر على التواصل مع الآخرين، ويصبح كذلك عرضة للتوجه نحو الانعزال والرهبة من المجتمع في حال فقدان المربي.
وقد نجد أن كلا الأمرين يحتويان على جانبي الخطأ والصواب، فكل منها له إيجابياته وسلبياته الواضحة، وبالنظر إلى الوجهتين والتفحص بما يحمل كل منها من سلبيات وإيجابيات يمكننا العمل على درء الخطر عن الطفل في الأولى، وإتاحة الفرصة له ليكون مستقلا بشكل تدريجي دون تعريضه للخطر في الوجهة الثانية.
ولعلني أجد مثلا يوضح ما أود قوله ويجعله سهلا، لتفرض أننا أردنا أخذ الطفل إلى الحديقة ليمارس ما يمارسه الأطفال من ألعاب، فلعبة السلم والانزلاق مثلا تحتاج من الطفل أن يصعد درجات السلم ثم ينزلق على آلة الانزلاق من الجهة الأخرى، فليس علينا أن نترك الطفل يقوم بممارسة اللعبة وحيدا، لأن ذلك يعرضه لخطر كبير، أو إصابة يصعب علاجها، كما أنه لا يمكننا أن نحمل الطفل ونضعه على السلم أو نصعد به لأنه لن يتمكن بعدها من ممارسة اللعبة بنفسه، على ولي الأمر في هذه الحالة أن يترك الطفل يحاول صعود السلم بينما يوفر له الحماية من السقوط من خلال إحاطته، ثم يعود لاستقباله عند نهاية مرحلة الانزلاق، فهو بهذه الحالة يمنحه الفرصة في ممارسة اللعبة وخوض التجربة بنفسه بقليل من التوجيه والتشجيع والإرشاد، ليقيه مخاطر السقوط التي قد تكون فادحة جدا وقد تصل لدرجة عدم القدرة على التعويض.
ولا يمكن القول بأن دور الأسرة يتوقف عند بداية انخراط الفرد بالمجتمع، فهو دور يتميز بالاستمرارية طوال حياة الفرد حتى بلوغ الرشد وربما تعدى ذلك أيضا، بدءا من تهيئته للانخراط في الجو المدرسي، وكيفية التعامل مع الأقران بأسلوب توجيهي، وغرس مبادئ احترام الآخر وتقبله، والتعاون معه لبناء مجتمع يقوم على الأسس السليمة والمرجعيات المتينة.
إن رسالتي التي أود لو تصل لأولياء الأمور أن المسئولية الملقاة على عاتقهم ليست مجرد بناء الأسرة والحفاظ على أفرادها فحسب، بل لا بد وأن يكون المربي قدوة لأبنائه ومرشدا لهم، كما لا بد أن يعمل على توفير بيئة صحية داخل الأسرة تمنح الأبناء الثقة بأنفسهم، وتفتح المجال أمامهم لتحمل المسئولية، من خلال إتاحة الفرصة لخوض التجربة والاعتماد على الذات، والاستفادة من توجيهات المربي في الوقت نفسه، ليكونوا قادرين على مواجهة الأزمات والمشكلات التي قد يتعرضون لها مستقبلا.